«إبداع الأمس» متهم بكسر التابو وإهمال أدوات الإنتاج

بالعودة التأملية للأعمال الإبداعية في عقود مضت نجد «ثيمتها» الأبرز تتمثل في الانشغال بكسر التابو، من خلال التركيز على الحفاوة بالسهر وجلسات الكيف والعشق والغراميات بعيداً عن إعلاء شأن المهنة والحرفة وعوامل وأدوات الإنتاج، ما أسهم بنسبة وإن كانت ضئيلة في التهاون بالعمل والكسب المشروع ما عزز البطالة الوجدانية في نفوس أجيال عربية ربما تطمح اليوم لمحاكمة المتسبب فيما آلت إليه أوضاعها، وفي ظل تأييد البعض لتجريم بعض الكتابات الإبداعية، يقف البعض على ضفة مقابلة ليترافع عن الإبداع كون تأصيل قيم العمل والكدح وتحصيل الرزق ليست مسؤولية الفن.

الناقد الدكتور وحيد موافي يؤكد أن الإبداع العربي اشتغل زمناً على كسر التابو، وانصرف إلى شكليات الحياة وزخرفها دون أدنى اهتمام بالقضايا المركزية ومنها هموم الناس، وتساءل موافي أين إبداع أدبائنا من مناقشة قضايا المجتمع الحقيقية ؟

فيما يذهب عرّاب المسرح السعودي فهد ردة الحارثي إلى أن الأدب لم يتحول كثيراً عن مساراته ووظائفه في كل مجالاته إلا في تناوله لما يستجد من أحداث أو ما يناط به من التنبؤ بقادم ثم يعود لحاله التي يعتاش منها فيطرق كل الأبواب ويصل لكل الزوايا في الشعر والقصة والرواية. وعد النص المسرحي مختلفاً بعض الشئ باعتبار تعدد الشخصيات التي تنقل الحدث وتعدد مسارات الطرح بتعدد شخصياته ما يلغي مركزية الفكرة الواحدة، على موضوع واحد سواء الأدبيات الغرامية أو الصراعات المختلفة، وإن جعلها قاعدة فكرة عمله سيخرج منها نحو أفكار أخرى تتعدد شخصياتها وتتنوع وتذهب وتجيء وتناقش وتحلل وتطرح كل شئ ثم تعود لمرتكز الفكرة الأساس. ورجّح ردة تحرير الإبداع من أسر مهمة أو هدف أو طريقة، ليتحرك كنحلة تقع على ما يطيب لها من الزهر ثم تجلب ما طاب وجاد من أنواع العسل وفقاً لمقتضيات الظرف الاجتماعي والبيئي والاقتصادي والسياسي الذي يمر به ويعيشه المبدع وقت إنتاج عمله.

فيما قال الخبير الثقافي الدكتور عبدالله الكعيد: «فتّش عن وسائل السوشيال ميديا وكيف أضحى معظم الناس في حالة شبه إدمان لها ومن خلال هذا التعلّق الشديد دخل على الخط كل من له أجندات سواء هدفها الهدم أو التأثير الاستهلاكي أو تسويق بضاعة كاسدة وأقصد بهذه الأخيرة بضاعة الأفكار». وأضاف: لا ننسى أن ثقافة (الإنتاج) لم تتأصل في فكر ووجدان معظم شعوب منطقتنا؛ لهذا تجد الفرد منهم لا يحتاج إلى جهد كبير كي يتخلى عن كهذه الثقافة. وأرجع إلى مقولة (المخرج عاوز كدا) تشخص أسباب العلّة إن جاز الوصف، إذ ما أسهل انجراف القطيع مع أي موجة وركوبهم مع قائد يؤشر لهم فقط نحو الاتجاه الذي يرغب هو لا هُم، وحسب (جوستاف لوبون) في كتابه سيكولوجية الجماهير لا يتعدى الأمر أكثر من حُنجرة تلعلع فتستجيب الجماهير، مستعيداً إشارة الفيلسوف (إميل سيوران) إلى قوّة وسطوة (الأرائك) وأن ما تفعله في الشعوب يفوق غزو الجيوش العسكرية في اغتيال روح البناء والعمل، وبالتالي الهزيمة، ولفت إلى حاجة الإبداع إلى رسم وتصميم مشروع قومي شامل متكامل يستطيع تجبير الكسور في جسد أي أمّة.

فيما يرى القاص خلف سرحان القرشي أننا نظلم الإبداع الأدبي عندما نتوقع أنّه لم يرسخ قيم العمل أيًّا كان نوعها، ورجح اشتغال أعمال روائية محلية وعربية تطرقت بين سطورها للحرف والمهن. ويذهب القرشي إلى أن الأدب الحقيقي إيحائي باقتدار، ما جعل بعضنا يتهم الأدب بازدراء بعض الحرف والمهن البسيطة والمتواضعة. ويؤكد أن وظيفة الأدب ليست الوعظ المباشر، مثلما هو الحال في خطب الجمعة؛ ولذا لا نتوقع أن نجد دعوة صريحة ومباشرة في نص أدبي متميز شعرياً كان أم سردياً من قبيل: (صنعةٌ في اليد أمان من الفقر)، (العمل شرف مهما كان بسيطاً)، ونحوهما، باستثناء المقالة.

وعد للأدب طرائقه الذكية والخلّاقة في إيصال رسائله متى ما كان منتجه متمكناً من صنعته، ملماً بها، حاوياً لأدواتها، فيعبر عن نظرة المجتمع التي تزدري المهن الحرفيّة، وتجعل من زواج فلان ذلك الصانع البسيط من فلانة بنت الحسب والنسب معضلة وأيّ معضلة. وهنا يعكس الأدب رؤية وفكر المجتمع ويضعها تحت المجهر، ويبقي الباب مشرعاً ليكمل القراء الفجوات ويلتفتوا لهذه القضية، وأحال لبعض القصص القصيرة والروايات التي تضمنت كثيراً من المعالجات الذكيّة، وتحفظ القرشي على فرضية أن الأدب أعلى من شأن الفساد والمخدرات والتابو. وقال: أظنها ليست دقيقة أو صحيحة، وربما تنطبق هذه التهمة الكبيرة على قليل من الأعمال الأدبية، التي هي بمثابة الشاذ الذي لا يقاس عليه. وأضاف: «ومن يتوقع أنه سيجد في عمل أدبي دعوة صريحة ومباشرة إلى النظافة الشخصية، و(تفريش) الأسنان مثلما يجدها في منشور توعوي توزعه وزارة الصحة، فقد أضاع العمر في طلب المحال».