اتهام المرأة بهوس التسوق.. جهل ذكوري

دحضت الكاتبة والروائية الليبية وفاء البوعيسي المقولة المنتشرة بتهافت المرأة على التسوق، والانطباع الراسخ بأن النساء مولعات بالتسوق وتبذير المال على سلعٍ ومعروضاتٍ يمكن في الغالب الاستغناء عنها، وهوس النساء بالاستهلاك والإفراط فيه، لأنهن وكما يُقال، لا يتعبن في جني المال، فهو غالبًا ما يكون مال الزوج أو الأب، كما أنهن لا يقدرن قيمة الوقت الذي يُمكن تمضيته في نشاطاتٍ أكثر فائدة، وبينت بالعودة إلى سلوك الرجل والمرأة تاريخيًا أن هذا هو الدور الوظيفي الحيوي الذي تقوم به وليس ترفًا أو هوسًا أو تبذيرًا.

وذكرت في نشرة أفق أن هذا الانطباع ساد طويلاً، حتى حل قرننا الحالي بتقدم علومه ومنطق شروحاته العقلانيّة، ليُقدِّم تفسيراتٍ نفسانية وأنثروبولوجيّة جديدة تربط السلوك الاستهلاكي للمرأة والرجل بماضي أسلافهما البعيد.

الصيد للرجل وجمع الثمار للمرأة

بدأ الأمر عندما لجأ الأسلاف إلى تقسيم النشاطات المتعلقة بتوفير الطعام للأسرة، فعلى الرجال الصيد، وعلى النساء القيام بجمع الثمار، والسبب يعود للتكوين الجسدي للرجال فيما خص الصيد، ولاحتياج الرُضع والضعفاء لخدمات النساء وعنايتهن فيما خص القطاف، وانفرد كل نشاطٍ على حدة، بآلياتٍ وإستراتيجيات حافظت على الأمن الغذائي والمعيشي للعائلة على مدى قرون.

في نشاطات الصيد، كان على الرجل أن يعرف الكثير عن الاتجاهات الجغرافية والبيئية، ويعرف مواسم هبوب الرياح وسكونها حتى لا يُفوِت على نفسه تسديدة الرمح، وأن يتعلم نصب الشراك، ويعرف مواسم هجرة الحيوانات وتزاوجها وأوقات خروجها بحثًا عن القوت، وتدريب صغارها على الطيران، فيسترخي مرتاحًا في كهفه حتى يحل الوقت المناسب، ليخرج بعدها من خلوته إلى المكان الذي يتوقع فيه ظهور الطريدة، وهو يقوم بذلك وحده غالباً كي لا يُثير ضجةً تجفل معها الفرائس، ويُسدد رمحه ليصيب الطريدة المُستهدفة من الرمية الأولى، وحين يُرديها، يحملها على كتفه ويقفل بسرعة عائدًا إلى كهفه عبر مخارج يعرفها مسبّقاً، تجنّباً لمُواجَهةٍ محتومة مع أمّهات الطرائد الحائرة في الجوار؛ وهكذا بانتظار موعد الصيد التالي.

أما في مواسم القطاف، فكان على المرأة أن تتعلم الكثير عن طبيعة الثمار، ومواقيت نضجها، ونصاعة لونها، وأن تتحسس كل ثمرة لتتأكد من خلوها من الحشرات، ومن الفجوات التي تُسبِبها الطيور، ومُعاينة النباتات الورقية بدقة للتأكد من خلوها من البقع الصفر واليرقات المُختبئة في طياتها حتى لا تضر بعائلتها، ولأنها قد تفكر في استزراع بعضها، علاوة على ذلك، حرصت المرأة كل الحرص، على رصْد الأشجار التي توشك ثمارها على النضج استعدادًا لمرحلة القطاف التالية.

ولأن الثمار تتحلل بسرعة نتيجة أسلوب تخزينها البدائي، فالمرأة مضطرةٌ للعودة إلى القطاف مرة كل أسبوع، وفي كل مرة كانت تَخرج بصحبة أُخريات للتعاوُن على حمْلِ منتوجهن، كما كانت تصحب طفلتها معها، إما لتعذر ترْكها في البيت أو لتعليمها كيفية إعداد مائدة صحية لأسرتها.

وعلى مر الزمن، صمدت آليات الصيد والقطاف، وحلت في كل مكان استوطنه الإنسان، وطوَّر خلاله عملية الزراعة والصناعة ولعبة الإنتاج وبناء الاقتصاد، واستطرادًا افتتاح الأسواق وانفجار ظاهرتها، حتى ألفى نفسه لاحقًا أمام أكثر مراكز التسوُّق شهرةً في عالَمنا الحاضر: نيويورك، باريس، روما، لندن، دبي، شنغهاي، والكثير من مُدن العالَم.

الرجل المستعجل والمرأة المتأنية في التسوق

من هنا سنفهم لماذا يتعجل الرجل في تسوقه، حين يدخل مضطرًا لمتجرٍ ما لشراء كريم حلاقة مثلاً، سيبحث بسرعة عن لافتة تحيله إلى قسم الرجال، فإن لم يجدها سأل أوّل عاملٍ في المكان عن غرضه، ليذهب مسرعًا إلى المكان المُخصَّص، فيستل منه الغرض المعني ويدفع ثمنه ويغادر على الفور.

كما سنفهم على النقيض من ذلك، تباطؤ المرأة وتأرْجُح قرارها في عملية التسوق، وهو قرار يُترجِم نفسه، أولاً، في أخْذ جولة مستقيضة لها على عموم محال مركز التسوق المعني، وتفقُّد الأرفف كافة، وخصوصًا في معرض بحثها عن عطرٍ نسائي بعَينه، وثانيًا حين نراها تتفحّص القارورة المَعنيّة، وطبيعة الموادّ العطريّة التي تحتوي عليها، ونسبة تركُّز الكحول فيها، ثمّ السعر، وبلد المنشأ، لتتحول بعدها إلى نَوعٍ آخر من العطور.. وهي تفكر، بميزانيّتها، والمدة المقدّرة لاستهلاك العطر وأمورٍ أخرى، وبعد ذلك تقرر.

وفي طريقها للدفع، ستتأمل المرأة مُستلزمات خاصة بالأطفال، على الرغم من أنها ليست أمًا بعد، ومواد التجميل، على الرغم من أن زوجها لا يحبذها، وبطاقات المعايدة، على الرغم من أن تبادُل البطاقات ليس شائعًا في ثقافتها، وأدوات المطبخ، على الرغم من أن مطبخها مكتظ بها، وأدوات الرياضة، على الرغم من كونها لا تُمارس الرياضة، ولا مانع لديها من إلقاء نظرة على المخبوزات والأشربة والحقائب والأحذية، وحين يروق لها حذاء ما، نراها تعمد لتجربة «الفردتَين» معًا، فتتمشى بهما قليلاً مركزة على السعر، فإن لم يناسبها، أجلت الشراء لموسم التخفيضات المُقبل.

وهكذا نلحظ أن نشاط التسوُّق لدى الرجل هو لتلبية حاجة ملحة، بينما هو عند المرأة مشروع مستمر لرصد كل جديد، ومحاولة شرائه إن أمكن، كما أنه مناسبة تتذكر فيها المرأة احتياجات صديقاتها وقريباتها وجاراتها، لتُخبرهن عن المكان والسعر.

وهكذا فالتسوق بالنسبة إلى النساء طقس اجتماعي وترفيهي مُحبَّب، قد تُشرك فيه حتى أطفالها بهدف التسري عنهم، وإخراجهم من رتابة البيت والمدرسة، حيث يلعبون ويمرحون من حولها، ويعودون بعد ذلك محملين بألعاب أو بقطعٍ من الحلوى.

الرجال يختبئون في ظل تسوق النساء

ترى بريجيت برانن (Bridget Brennan)، المؤسِّسة والرئيسة التنفيذيّة لشركة (Female Factor) والباحثة في دراسة السلوك الاستهلاكي على أساس النَّوع (Gender) أنّ السبب الكامن وراء تصدُّر المرأة نشاط التسوُّق في كل الثقافات، لا ينتج بالضرورة عن كونها مُدمنة على الاستهلاك، بل لطبيعة التقاليد التي تُحيط بالنساء عموماً في العالَم كافة.

على مدار حياتها تقريبًا، تقوم المرأة بمهمّة شراء كل ما يحتاجه البيت من طعام وشراب ومستلزمات تنظيف وأثاث وملابس للأطفال، فهي تبتاع احتياجات ابنها حتى قبل أن يولد، وبعد أن يولد، وحتى يصل إلى سنٍ متقدمة، كما تبتاع سائر احتياجاته المدرسية والترفيهية والعلاجية، كما تبتاع للزوج وكبار السن ممَّن حولها، احتياجاتهم كلها، الكبيرة منها والصغيرة.

هؤلاء في الواقع هُم المشترون الحقيقيون، لكنهم يتخفون في ظل المرأة التي تنوب عنهم جميعًا أمام آلة البيع.

إن المرأة المسؤولة عن عائلة، تجد نفسها مَعنية بالتسوق، ليس للأشخاص الذين يعيشون معها فقط، بل حتى لأصدقائهم وأقربائهم وزملائهم في العمل؛ فهي تفكر في الوجبة المناسبة لضيوف زوجها، فتُعد لهم وليمةً مُعتبرة، لا تنقصها الفاكهة والحلويات، وحتى الزهور على المائدة، وهي تتذكر أن تشتري هدية لمعلمة طفلتها في المدرسة في يوم عيد المُعلم حتى لا تُحرجها أمام زميلاتها.

كما ستشتري هدية عيد ميلاد لصديق ابنها الذي يدعوه لحضور احتفالٍ صغيرٍ في بيته، أو قد تعد له كعكة ميلادٍ مُغرية، كما تبتاع الهدايا والمشروبات وبطاقات التهنئة في المناسبات العائلية، كالزواج والنجاح والتقاعُد وقدوم المواليد، وهي تتذكر أعياد ميلاد معظم مَن حولها، وتُبادر إلى شراء الهدايا المُناسبة لكلٍ منهم.