الأمة العربية بين الاستسلام للتراث والنهوض به

ss
لم يخل التراث العربي من إضاءات، وومضات فكر، استفاد منها بعض التنويريين على مستوى الخلفاء، والأمراء، والوزراء، وتلقاها البعض ببذل مجهود لتطوير وتحديث، ورماها البعض بالجحود، ونعتها بما ليس فيها من التهم التعبوية الجاهزة، حفاظاً على الجمود. والتراث معادل موضوعي للخطاب الإسلامي؛ يستمد منه إشارات تحرر العقول، وتمدها بطاقة التأمل والاستنتاج والمقايسات وانتهاج طرق الإبداع بالابتكار والاختراع، وبقدر ما كانت بعض العصور عصور سعد واحتفاء بالأفكار بقدر ما تصدت عصور وأزمنة ظلامية لكل بادرة تحتمل فتح نوافذ النقد والمراجعات.

وإذا كانت بعض الدعوات المتطرفة أجحفت في حق التراث، ورفضته بالمطلق، كونه لا بارقة أمل فيه، ولا مشروع نهضوي يحتمله بحكم أن الأوائل في الغالب استسلموا للتراث فقتلوه واغتالوا كل مشاريع المستقبل، بمخاوف لا شرعية لها، في حين انبرى بعض المفكرين العرب والغربيين في تأسيس وعي جديد غير منبت عن أصوله.

وأسهم المفكر الدكتور محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، وقسّم مراحل تطوره إلى مستويات فكرية، متصلة بالتطورات التاريخية، من العرفان والبيان والبرهان، ليس تحقيبا للفكر فحسب، بل أيضا، رصد للإسقاطات المتبادلة، والتفاعل بين الفكر وبيئته.

ولفت إلى خطورة فرض الغرب الأوروبي نفسه ذاتاً للعصر كله، وللإنسانية جمعاء، وأساساً لكل مستقبل ممكن ما يجعل الأثر ينسحب على الماضي ويلونه بلونه.

وتحفظ الجابري على انطلاق قراءة الليبرالي العربي للتراث العربي الإسلامي من الحاضر الذي يحياه، (حاضر الغرب) فيقرأه قراءة أوروباوية النزعة، وينظر إليه من مرجعية أوروبية فلا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبي، مشيراً إلى إمكانية النهوض بالتراث العربي الإسلامي شرط توخي الموضوعية والتزام الحياد ونفي أن تكون هناك أي دوافع نفعية أو أهداف أيديولوجية.

ويرى الجابري تلازماً بين ثورة فكرية تمكّن من إعادة بناء التراث، وتراث يساعد على إنجاز الثورة الفكرية والعلمية، مؤكداً أن طريقة التفكير أولوية كونها فعلاً عقلياً، لا يكتفي بنقد الأيديولوجيا بأيديولوجية لأنه سينتج أيديولوجيا ثالثة.