ثلاث ساعات مع الرئيس ..د. محمد المصري

مساء يوم الخميس الماضي، كنت واحدا من عشرات المدعوينللاستماع الى سيادة الرئيس محمود عباس في مبنى المقاطعة، كانالجو ماطرا وباردا، ولكن مفاجئات ذلك الاجتماع جعلت من ذلك الجوالعاصف لا شي امام ما قيل، فعلى مدى ثلاث ساعات تقريبا قدمسيادة الرئيس لنا وجبة كاملة الدسم من التاريخ والسياسة والنضال.كان الرئيس محمود عباس مدهشا في قدرته على لملمة كل الخيوطوالنسج منها رواية جديدة لتاريخ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.وكان متوقد الذهن وسريع البديهة وفي تقديم حبكة اخرى لطبيعة ماجرى واسباب ذلك كله. والحقيقة انه كان بسنواته الثمانين او يزيدنموذجا للقوة والصلابة والقدرة المتجددة. قدم الرئيس محمود عباسللحاضرين عرضا تاريخيا موجزا ولكنه مكثف جدا للمظلوميةالفلسطينية المتمثلة في اجتماع واتفاق القوى الكبرى وعلى رأسهااميركا وبريطانيا في سلب الوطن والارض واهدائها للحركة الصهيونيةالتي هي جزء لا يتجزأ من الحركة الاستعمارية العالمية. الرئيسمحمود عباس كان واضحا في القول ان ايقاظ احلام اليهود وتجسيدهذه الاحلام في كيان سياسي لم تكن ثمرة جهود اليهود انفسهم بلكانت خططا ورؤى استعمارية لاهوتية تقدمها دول استعمارية كبرى، فاليهود الحاليين في معظمهم من اصول تترية انحدروا من سلالاتاقامت مملكة سميت مملكة الخزر في القرن التاسع الميلادي ،والرئيس محمود عباس بهذا القول وكأنه يقول ان القوى الاستعماريةالكبرى استخدمت اليهود ووظفتهم لتنفيذ الخطة الاستعمارية الكبرىفي تفكيك الامبراطورية العثمانية ومن ثم تفكيك الامة العربية وذلك لماظهر في مؤتمر كامبل بازمان.

كان الرئيس واضحا ايضا جدا، عندما قال ان النظام العربي الرسمي قبل عام 1948 عمل على تحرير فلسطين منا ولم يحررها لنا، وفي ذلك ادانة كاملة للنظام العربي في ذلك الوقت، حيث كان هذا النظام مستلبا ومسيطرا عليه وغير مدرك لطبيعة مخاطر المشروع الصهيوني، وواصل الرئيس محمود عباس رؤيته الواضحة، عندما اضاف ان هذا النظام العربي وحتى الآن لا يقوم بما يجب ان يقوم به، ولا يقدم ما يجب عليه ان يقدم.

وربما كان هذا هو سبب ذلك الاستعراض الطويل من التاريخ الذي أسهب الرئيس محمود عباس في أضاءته، فهو يقول ان المؤامرة على الشعب الفلسطيني مستمرة منذ عقود طويلة، ليست من خلال رؤية مؤامراتية متخيلة وانما من خلال وقائع حقيقية.

الرؤية التاريخية الواضحة التي قدمها الرئيس محمود عباس، لامست ايضا التجربة النضالية الفلسطينية في الاردن ولبنان وكذلك علاقات الثورة الفلسطينية مع العالم العربي، وكان الرئيس جريئاً وقوياً بما يكفي لأن يقول ان العمل الثوري في تلك الدول كان فيه خطأ كبير، فالثورة الفلسطينية ما كان لها ولا ينبغي ان تتدخل في شؤون الدول العربية، دون طبعاً اغفال ان السياق العام، كان وما يزال، يستهدف الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني منذ انطلاقته وحتى الآن.

الرئيس محمود عباس كان واضحاً جداً في اظهار مشاعره وآرائه حول الدور الأمريكي من قضية شعبنا واسهامه في منع اقامة دولتنا ووضع العراقيل امام التقدم في أية تسوية سياسية. إذا قال الرئيس محمود عباس بكلمات لا لبس فيها ان الادارة الامريكية هي التي تصوغ السياسة الاسرائيلية وتوجهها، وان ما يسمى باللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الامريكية هو أكثر مرونة من الادارة الامريكية ذاتها. ولهذا طلب الرئيس محمود عباس من الجاليات الفلسطينية وخصوصا المتواجدة في الولايات المتحدة الامريكية ان تعزز وتركز جهودهاللوصول الى الشعب الامريكي لتغيير اتجاهاته، الرئيس محمود عباس كان واضحا في رسالته الى الامريكيين بانه يأخذ عليهم هذا التلكؤ والتباطؤ والتخفي وراء الضغوط الاسرائيلية او تعقيدات الكونغرس الامريكي واجراءاته.

ولم يتوقف الرئيس محمود عباس في تقديم جرد الحساب الطويل هذا، فقد اشار الى ان المصالحة ممكنة اذا اعترفت حماس بالقرارات الدولية، وانه على استعداد لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في حال حصل على ضمانات اوروبية من اسرائيل بإجراء الانتخابات في القدس المحتلة، وهو مقتنع بإجراء هذه الانتخابات لأنها استحقاق دستوري وجماهيري بغض النظر عن نتائجها، فقد سبق وان جرت انتخابات سابقة وفازت فيها حماس، فالرئيس محمود عباس هو رئيس الشعب الفلسطيني، هكذا قال الرئيس بكل ثقة واقتدار.

في نهاية كلامه، قال سيادة الرئيس انه يرى الدولة الفلسطينية المستقلة رغم كل ما في الافق من ضباب وعراقيل وحصار، وبالرغم من سنه المتقدم كم قال، أكد أنه سيرى الدولة الفلسطينية في حياته.

كانت تلك رسالة أمل حقيقي وايمان راسخ بقوة الانتصار وتحقيق الأهداف.

هذا الايمان العميق، يأتي من الثقة بالله أولاً، وبقدرات الشعب الفلسطيني ثانياً. هكذا قال الرئيس محمود عباس. قال حرفياً أن الشعب الفلسطيني عظيم، أفراداً ومجموعاته، وهو قادر على أن يصنع المعجزات، مرتكزا على قراءته لسيرورة التاريخ، وأحرار شعبنا على الانتصار.

كان خطاباً مدهشاً وهاماً وشاملاً، قدم فيه الرئيس رؤيته وآراءه للقادم من الأيام. فعلى الرغم من تكاثر الأعداء واشتداد الحصار وغدر كثيرين، إلا أن الشعب الفلسطيني ظل قادراً ومستمراً في الدفاع عن أرضه وعقائده وآماله وأحلامه.. شاء من شاء وأبى من أبى..

في ذلك الخطاب الشامل، الذي أعرب فيه الرئيس عن خيبة أمله من الدور الأمريكي لم يقطع الصلة مع الادارة، اذا قال انه ما يزال يفتح الباب للحوار، وانه يملك القوة والقدرة على معارضة السياسات الامريكية، فقد رفض تلك السياسات 37 مرة من قبل، وهو على استعداد ان يفعل ذلك كما فعل امام صفقة القرن، الرئيس عباس قال انه قوي بشعبه لان يقف امام أي سياسة تتجاوز الحقوق الوطنية والخطوط الحمراء، وبالنسبة لإسرائيل وحكومة نفتالي بينت العنصريةالتي تعمل على تكريس الاستيطان فإن الشعب الفلسطيني يعرف كيفية التعامل مع هذه الحكومة كما تعامل مع غيرها من خلال المقاومة الشعبية السلمية التي اثبتت نجاعتها وفعاليتها.

كان خطاباً رائعاً وشاملاً ومدهشاً.. كانت ثلاث ساعات من التحليق عالياً في سنن التاريخ واتجاهات الايام التي تثبت ان الاحتلال ما هو إلا عارض تاريخي لا يلبث إلا أن يزول.

كلام الرئيس هذا، لم يكن حصيلة أيام حكمة، بل قراءة جيدة للتاريخ وقناعة بحتمية الانتصار، مما عزز هذه الرؤية لديه، وقدمها لنا في ثلاث ساعات.