مصر وأحداث السودان..السفير د. عبد الله الأشعل

الموقف الصحيح ينبع من القراءة الصحيحة للمشهد السوداني، وهذه القراءة الصحيحة تتلخص فيما يلي:-
أولًا: أن السودان وفلسطين وليبيا هم العمق الاستراتيجي لمصر، لكن أنظمة الحكم التي مرت بمصر منذ عام 1952 فشلت في إدراك هذه الحقيقة البسيطة، كما فشلت في إدراك الأخطار التي تنجم على الأمن القومي المصري من هذه السياسات. ولا تستحي من القول أن تلك الأنظمة لم تدرك مصلحة مصر في هذه البلاد، أو أنها أدركت لكنها فشلت في إدراك التطابق بين حسابات مصر الوطن وحسابات النظام، ولقد رفعت شعارات ليس لها مضمون عملي.

ويحق في هذه الحزمة من الدول سياسة مصر في دول نهر النيل البالغ عددها 10 دول إضافةً إلى مصر، وبالذات دول المنابع التي تعتمد مصر على مياهها بشكل مباشر (الحبشة).
والحق أن سياسات تلك الأنظمة بعد رحيل عبد الناصر فرطت في هذه المصالح، وفضلت دعم كراسيها مع اسرائيل وواشنطن واكتفَّت بالشعارات والمظاهر، وكانت النتيجة ان فقدت مصر كل اوراق القوة تجاه القارة السمراء. وأفصح دليل على ذلك عجز مصر عن الإدارة السياسية لأعمق مشكلة وهي سد النهضة؛ حيث انحازت أفريقيا بالكامل، وكذلك الدول الكبرى بمجلس الأمن إلى الموقف الإثيوبي.
ثانيًا: إذا كانت أزمة السودان ناجمة في جزء منها عن السياسات المصرية الخاطئة تجاه السودان منذ عام 1953، فإن الجزء الآخر من تفسير الأزمة في السودان أن مصر مع كامب ديفيد اختارت إسرائيل والولايات المتحدة، وخرجت من عداد القوى السياسية في المنطقة العربية. وعندما تفقد مصر أوراق القوة الإقليمية تضعف مكانتها في نظر العالم الخارجي.
وأذكر أن السادات كان مخطئًا في تقدير المصلحة المصرية، وكان اختياره لمصلحة النظام الذي يمثله على حساب الوطن؛ بدليل أنه صرح علانية بأنه اضطر إلى التزاوج مع إسرائيل بعد أن خذلته القبيلة العربية. فأعلن السادات أن مصر لا تنتمي إلى العالم العربي، وأيده في ذلك بعض من كبار المثقفين مثل توفيق الحكيم، الذي لم يستطع أن يجاهر بهذه الحقيقة أيام جمال عبد الناصر.
ونشر كتابه “عودة الوعي” بعد هزيمة مصر  عام 1967، وانكسار عبد الناصر أو الموت المدني لعبد الناصر بلغة القانون الروماني. هكذا دخلت مصر في بيت الطاعة الأمريكي على خلاف العادة، إذ كانت عادة الدول العظمى أن تضم الدول الأخرى إلى حوزتها، كما تدخل أوراق قوتها إلى حوزتها أيضًا، وبانتهاء عصر السادات كانت مصر قد فقدت العرب وإفريقيا معًا. وأذكر أن آخر قمة عربية إفريقية كانت في مارس 1977 في مقر الجامعة العربية، قبل أشهر من تجسيد التقارب مع إسرائيل والتزاوج معها بزيارة القدس، علمًا بأن زيارة القدس صارت لغزًا في تفسير سلوك السادات تجاه إسرائيل يصعب تفسيره.
ثالثًا: أن المكون العسكري في السودان ليس متجانسًا، فالأصل هو الجيش السوداني الذي استخدمه الإسلاميون في الانقلاب على الحكم المدني بقيادة رئيس الوزراء “الصادق المهدي” عام 1989. وكان البشير قائدًا للجيش وشجعته بعض القوى الإقليمية على ذلك، خصوصًا وأن السودان لم يشهد استقرارًا في نظام الحكم منذ عام 1956، وكان الخارج مسيطرًا على حكومات السودان ونظمها المتعاقبة.
 فلما قام المتمردون في دارفور بعد انقلاب البشير بعدة سنوات، اضطر الجيش السوداني إلى الاستعانة بالجنجويد، وهي ميلشيات غير نظامية بقيادة حميدتي، وهي مدربة على حرب العصابات التي لا يصلح لها الجيش. وانتهت هذه الحرب بعد أن لعبت فيها الميليشيات دورًا بارزًا، ولم يستطع البشير حل الميليشيات على الفور، وربما كان يتصور أنه يمكن الاستفادة منها، وأن تشكل قوة داخل الجيش. وهذه الميليشيات كانت تمثل مشاكل كبيرة للجيش النظامي، ونمت آمال حميدتي لأن يكون شريكًا في السلطة؛ فتنامت الآمال أن يتشارك على السلطة مع البرهان والإطاحة به.
وبعد صدور قرارمجلس الامن رقم 1593 عام 2008، أُرفق بالقرار كشف يضم البشيروخمسين شخصية سودانية  اخريي تم تسليمها إلى المحكمة الجنائية الدولية، فلم تطالب المحكمة سوي بالبشير ولم تطالب بحميدتي رغم أنه كان يجب أن يسلم أيضًا، ثم وقعت الثورة في السودان في أكتوبر عام 2020. وحدث الحوار بين المدنيين والمكون العسكري، ويبدو أن الخلافات بين عناصر المكون العسكري كانت سببًا في عدم توقيع اتفاق نقل السلطة إلى المكون المدني الذي لم يكن موحدًا هو الآخر، ثم استعانت الإمارات بميليشيات حميدتي للقتال في اليمن، ويبدو أن هذا الموضوع لم يكن محل اتفاق عناصر المكون العسكري.
الخلاصة أن القتال منذ يومين بين الجيش السوداني والميليشيات التي تضم حوالي مائة ألف عنصر، وهي نصف عدد الجيش السوداني؛ لكن الأخير يمتلك قدرات استراتيجية تكفل له بسهولة حسم المعركة مع الميليشيات.
رابعًا: أن الأصل هو الجيش السوداني، وقد أخطأ البشير عندما تقاعس عن حل الميليشيات بعد حرب دارفور. ولا بد أن يحسم الجيش الصراع لصالحه، ولكن تدخل الدول المختلفة واتخاذها مواقف متناقضة مع الجانبين قد يطيل أمد الصراع، وهذا له نوعان من المخاطر:
– الأول: أن الميليشيات تنتشر بسهولة في القرى والمدن والأحياء، ومعنى ذلك أن ساحة المعركة ملغومة بأبناء الشعب السوداني؛ مما يترتب على الصراع العسكري ضحايا من الشعب السوداني الذي ترك له المكون العسكري عدم الاستقرار، والأزمة الاقتصادية بكل تجلياتها.
والثاني: أن السودان مع طول فترة الصراع مُعرض إلى التقسيم، والحل الوحيد مع فرضية استيلاء الجيش السوداني على كافة مقاليد السلطة دون منازع هو تخفيف الآثار الضارة للصراع. وأتمنى أن تدرك الاطراف المتورطة في الصراع اأن مصير السودان على المحك، وأن زحف حميدتي نحو السلطة لمجرد أنه قائد الميليشيات خلق مشكلة في السودان.
خامسًا: أن موقف مصر ومصلحتها في إنهاء الصراع لصالح الجيش السوداني، ولكن استمرار الصراع قد يُغري مصر بتدخل عسكري لصالح الجيش، وهذا خطر لا يقل عن ورطة اليمن التي تورط فيها جمال عبد الناصر .
أن تدخل الجيش المصري في السودان في هذا الصراع المعقد الدامي  ليس قرارًا صائبًا؛ وإنما يجب أن تسعى مصر لإقناع كافة الأطراف أنها مع السودان الواحد وأن جيشه يجب أن يكون موحدًا بعد أن أرهقته المغامرات العسكرية للقيادات الفاشلة.
سادسًا: أن الموقف الأمريكي لم يعد حاسمًا في الملفات الإقليمية، ولكن ما دامت لإسرائيل أولوية في المصالح الأمريكية حسب تصريحات بايدن، فإن واشنطن من مصلحتها دعم البرهان ضد حميدتي، ولكن الأخير أطلق إشاعتين لا يعرف على وجه اليقين وجه الصحة فيهما:
أن الجيش يسيطر عليه الإخوان المسلمون، وهذا ما لا يريده الغرب ولا تريده مصر، كما لا تريده إسرائيل. ولكن البرهان هو الذي بدأ الخطوة الأولى نحو التطبيع مع إسرائيل، ولا بد من دعمه لهذا الغرض. أما التأييد الخفي لحميدتي والميليشيات قصد منه تمزيق السودان بإمكانياته الكبيرة، وفي تمزيقه منفعة مزدوجة لإسرائيل، وهي الإضرار الكامل بالأمن القومي المصري، والقضاء على السودان كدولة عربية.
ويمثل السودان لمصر العمق الاستراتيجي، كما أن السودان ممكن أن يساعد مصر في تدمير سد النهضة، إذا كان هذا هو الخيار الأخير للنظام المصري. فضلًا عن أن السودان به مصالح مائية فارقة لمصر، إلى جانب أن الشعب السوداني والشعب المصري بينهما مصالح مشتركة؛ فضياع السودان سيكون خطيئة النظام الذي فرط ثلاث مرات في السودان. مرة في عام 1953، ومرة أخرى عندما أيد انقلاب النميري، ومرة ثالثة ترك السودان وفرط في التنسيق معه في كل الأمور؛ بل ودخل في صراع معه يعرفه النظام جيدًا.
الخلاصة…
أن مصر من مصلحتها أن يهدأ السودان، وأن يتم تسوية ما لصالح الجيش السوداني، وحقن الدماء.. ولا مانع أن تعرض مصر اللجوء السياسي لحميدتي في القاهرة لولا انه يتهم مص بالانحياز للبرعان وأن تدخل مصر في شكل جاد في الأزمة.. لكنها تصر على موقفها من عدم التدخل في الشئون الداخلية للسودان.
 وبالطبع فإن الصراع في السودان سوف يعطي إثيوبيا متسع من الوقت لتدبير المؤامرة ضد مصر، وحرمانها من أي قريب في سد النهضة.
كاتب ودبلوماسي مصري