وعد الآخرة بين الغيب والشهادة ..عبد الرحمن شهاب

التداول الحضاري بين الشعوب هو سنة كونية طبيعية، يتدخل بها القدر الإلهي لإنصاف المؤمنين، عندما يصبحون مؤهلين لاستلام زمام الأمور ولديهم ما يُمكن تقديمه للبشرية ورفعة مسارها، وفي العديد من المحطات كان الخالق عز وجل يعد المؤمنين بالنصر كجزء من عملية التثبيت وتعزيز الإيمان بالحق الذي يمثلونه، ولتهيئة أنفسهم لتحقيقه ليمثلوا قدر الله.
الشهادة والشهود هو الحضور والتخطيط للاحتفاظ بقوى المجتمع حية والاحتفاظ بمقدراته لتأمين المستقبل، فيما الاتكاء على الغيب ليس سوى انتظار أن يتدخل الإله أو قوى أخرى لتخدم مصالحنا، وذلك بأن يأتي قدرك في سياق مصالح آخرين ليحققوا لك قدرك ويحققوا لك استقلالك واستعادة حقك. وفي هذا السياق، نحن لم نرَ أيًّا من الدول التي تملك قوة على الأرض من ترى أن مصلحتها مرتبطة مباشرة أو متعلقة بتحقيق الانتصار للشعب الفلسطيني وتحقيق استقلاله، أو إنها مستعدة لأن تفرز من مقدراتها ومن لحمها الحيّ ما تمنحه للشعب الفلسطيني لينال حقوقه، وما نراه من دعم وتعاطف ليس سوى تقاسم الفائض من المقدرات والوقت للتبرع به لشعب مظلوم كجزء من العمل الخيري أو إسقاط الواجب التاريخي.
وعندما نتحدث عن وعد الآخرة الذي ذكر في سورة الإسراء، فإننا نتحدث عن حدث أكبر بكثير من تحرير فلسطين، وتوزيع ممتلكات الكيان الغاصب “إسرائيل”، وإنما هو تبادل حضاري ليس بمقدور الشعب الفلسطيني تحقيقه، وربما لا يقوى عليه العرب جميعًا، لأنهم ما زالوا لا يملكون البنية الثقافية لتحقيق هذا التبادل الحضاري، ولذلك رأى د. فتحي الشقاقي عند تأسيسه لحركة الجهاد الإسلامي أنه ليس على الحركة الإسلامية ولا على الفلسطينيين أن يحرروا فلسطين؛ بل واجب الحركة الإسلامية فقط إبقاء القضية حية وإعادة بعثها في قلوب الأمة الإسلامية، أي إعادة القضية الفلسطينية إلى سياقها الطبيعي (قضية الأمة المركزية) لأن إسرائيل سهم الغرب المتقدم ولن تنتهي “دولة إسرائيل” إلا بانتهاء مشروع الغرب في المنطقة الإسلامية برمتها. ومن هنا، علينا أن نبني استراتيجيتنا السياسية والعسكرية على هذا المفهوم، فأي تطوير في غير هذا السياق يبقينا وحدنا كفلسطينيين دون حاضنة الأمة، وبالتالي يُقلل من قدرتنا على استعادة البعث.
إن العمل على تحقيق وعد الآخرة يختلف تمامًا عن العمل على توزيع غنائم وعد الآخرة، فما تقوم بهِ الشعوب الحية لاستعادة استقلالها أو تحقيق انبعاثها هو وضع خطط عامة وخطط تفصيلية لعملية تنفيذ البعث، ومراجعة كل مرحلة من مراحل تنفيذ هذه الخطط. ومن هذا الفهم، يتبين أن الخطابات والأوراق – التي قدمت لمؤتمر وعد الآخرة الذي عقد بتاريخ 30/9/2021 في غزة في قاعة الكومودور – لم تناقش أيًّا من هذا، بل ناقشت كيف ستتم عملية الاستلام بعد التحرير، فلم تقل لنا (ولم يقل لنا أيّ مؤتمر) على الإطلاق كيف سيتم تحرير فلسطين أو تحقيق وعد الآخرة بشكل مشهود، بل جميعهم يعتمدون على البعد الغيبي للوعد، فلم يتحدث إلينا أحد مقدمي الأوراق عن خطته للخمس سنوات أو العشر القادمة لتحرير فلسطين؛ بل لم يحدثنا أحد عن خطة مسقوفة بزمن عن رفع الحصار عن غزة سوى خطط تجاوزها الزمن.
أنا أفهم أن رسالة المؤتمر تهدف إلى إظهار قوة المقاومة الفلسطينية وجديتها، وإرسال رسالة توعوية بهدف تغييب المراهنة على التطبيع والاستسلام وتعزيز الثقة بالمقاومة؛ هذه الرسالة ستكون واضحة وقوية ودون تشويش لو ركز المؤتمرون عليها دون الدخول في تفاصيل شكل الانتصار والأنفال التي ستوزع بعد المعركة. نحن بحاجة فعلًا لمؤتمرات وعد الآخرة، ولكن مؤتمرات تسبر غور الشروط الذاتية والموضوعية لتحقيق وعد الآخرة، ندرس مدى اقترابنا كل عام ومدي ابتعادنا، نراجع الشروط التي خصها الله سبحانه وتعالى بـ “عبادًا لنا” كم تحقق منها على ثلاث مستويات: على مستوى القيادة، من ناحية التواضع والإيثار والرحمة والتشاور والمؤهلات والقدرات القيادية؛ وعلى مستوى الأفراد العاملين على تحقيق وعد الآخرة، أبناء الفصائل حاملة المشروع، التقوى والالتزام والسلوك القرآني ومحبة الآخرين والتواضع، والخضوع للقانون وعدم التمايز عن المجتمع؛ والمستوى الثالث الوعي الجمعي للقيادة، الذي يحقق التكامل القيادي والضمير الجمعي الذي يرى خارج حدود الذات، والوعي الجمعي المجتمعي وتعزيز ثقافة جيل وعد الآخرة، مجتمع يحركه الضمير والأخلاق والتزام القانون العام وعدم التعدي على الحقوق، وتشكيل نموذج الجيل القرآني.
لو عُقد هذا المؤتمر وقدمت الأوراق البحثية بهذه المفاهيم، لأصبح العالم يتحدث عن الوجه المشرق لوعد الآخرة الذي وعد الله المسلمين بهِ، لكن تصوير وعد الآخرة بأنه جوس خلال الديار والسيطرة على المباني والمؤسسات فهذا لا يرتاح له أيّ رأي عام مهما كان تعاطفه مع الشعب الفلسطيني. نحن كشعب وقضية نمرّ اليوم، ومنذ عملية “سيف القدس”، بمرحلة تمكين في الرأي العام العالمي وتراجع لصورة الكيان، فما الذي جرى لنا لنهدم ما حققناه ونصور أنفسنا كباحثين عن غنائم وليس مطالبين بأي حقّ؟! إن الدخول في تفاصيل تحقيق الحق الفلسطيني يدخلنا في متاهات – نحن الإسلاميون قد لا نكون متفقين عليها – نحن في غنى عنها.
أما الإصرار على هذا المفهوم وأنه لابد منه (تسلم الغنائم والمحافظة عليها)، فقد كنت أتمنى لو عُقد هذا المؤتمر قبيل الانسحاب الإسرائيلي من غزة، واتخِذت قرارات لحماية الممتلكات التي تركها الاحتلال، ووضِعت خطط لإدارتها؛ لكن هذا لم يحدث، ووقفنا نراقب إهدار مقدّرات شعب كان بإمكانها أن تكون رافعة أساسية للاقتصاد الفلسطيني، من مزارع ومصانع ومناطق صناعية كاملة تم نهبها على يد العامة، بعد أن انحسر عنها الاحتلال. إذا لم نكن قادرين على حماية شبكات الري ومزارع وحقول ومصانع بنيت بأيدٍ فلسطينية، وبعضها ممتلكات فلسطينية، إذا كنا لم نستطع الاحتفاظ بمقدرات بعض المستوطنات؛ فكيف بمقدّرات دولة نحن لا نعرف عنها شيئًا، بل لم نعرف أن نسأل السؤال الصحيح حول مقدّراتها، وليس لدينا كلمة المرور لإقفالها، ولا حتى اسم الحساب.
إن الذين سيستلمون مفاتيح القدس في وعد الآخرة لا يُمكن أن يفكروا بهذه الطريقة، فالاهتمام بتوزيع الغنائم ليست نموذج “عبادًا لنا”. “عبادًا لنا” الذين سيفتح الله عليهم هم الذين طبقوا “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”. لا شك بأننا قدمنا نموذجًا متفوقًا في العمل المقاوم العسكري، على صعيد الفصائل والصعيد الشعبي، سيكون مدرسة عبر التاريخ لأمم تقع تحت الاحتلالات، وشكّل شعبنا صمودًا وثباتًا وأخلاقًا لا يضاهيه صمود، بل وسلوكًا مجتمعيًا في التضامن المجتمعي في سياق مواجهة الاحتلال وحاضنة ليس لها مثيل؛ لكن على الصعيد المدني، إدارة المقدرات والمؤسسات الحكومية، وتحقيق العدل والمساواة والشفافية، ما زلنا متعثرين.
إن طريقة التفكير التي نفكر بها وندير بها الشؤون العامة، ستكون عقبة أمام العباد الذين سيختارهم الله لتحقيق وعد الآخرة، فلم ننجح سابقًا باستلام المقدّرات، وما زلنا لحتى الآن متعثرين.
إذا كنا ما زلنا متعثرين في فرض تسعيرة كهرباء واحدة على أصحاب المولدات، وبقي منهم من يتعالى على قرار الحكومة، وبعلم الحكومة والمؤسسات القضائية والتشريعية يجبي من الناس تحت تهديد قطع التيار واحتكار الحارات والشوارع أربعة شواكل للكيلو وات الواحد بحجم مدينة كاملة في القطاع؛ فكيف سندير شركة كهرباء لكل فلسطين التاريخية؟! إذا كنا أخفقنا في الاحتفاظ بشارع الرشيد من نهب أصحاب الكارات، ومن إغراقه بالقمامة بعد استلامه من اللجنة القطرية؛ فكيف سنحافظ على (استراد فلسطين)، الطريق الذي أنشأه الكيان ليقطع طولًا فلسطين التاريخية؟! إذا كنا لا نستطيع المحافظة على شاطئ نظيف في حدود 30 كيلو متر، فكيف سنحافظ على شواطئ فلسطين وحقول الكرمل؟! إذا كان ما زال موظف مضخة صرف صحي يسترق الليل ليضخ العادم في مغتسل العامة على شواطئ غزة، إذا كنا حوّلنا محيط مقبرة شرق جباليا إلى محرقة نفايات صلبة تبث سرطانًا إلى أنوف مواطنين لا يبالون؛ فما هي الخطة التي ستتحكم في نفايات فلسطين الصلبة، وتجعل المواطنين يبالون بصحتهم ومستقبلهم؟!
إذا كانت الأوراق المقدمة لمؤتمر وعد الآخرة أوراقًا جدية، فهذه فرصة لأن نهتم بحاضرنا قبل مستقبلنا البعيد، وننزل الخطط المقدمة منزل التنفيذ على واقعنا المصغر (غزة)، لإثبات قدرتنا ولتكون نموذج للتجربة والتأكد من جدية خططنا الكبيرة؛ فإن لم تصلح هذه الخطط لإنقاذ غزة فلا فائدة منها، وإن صلحت فلنبنِ عليها.
الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما كان يقول “اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارس” وهو يحفر الخندق كان ناجحًا في إدارة الدولة، ولم يكن لديه تقصير داخلي، كان قد اكتمل أداؤه فيما امتلك. وأما قصة سواري كسرى، تكاد تكون الوحيدة التي وعد بها رجلًا بأن يُملكه شيئًا ماديًا لم يحصل عليه بعد، وبالمناسبة لم يكن سراقة مسلمًا حينها، ولم يكن الأمر توزيع غنائم؛ بل إثبات معجزة بقمة الصدق الذي امتلكه النبي في أوساطهم، فهو لم يكن مخلفًا وعدًا قبل ذلك، ولذلك صدقه سراقة ولم يكن غيبيًا في التوزيع. لم يطلب من أحد أن يتخلى عن الذهب والفضة الممتلكة من الروم والفرس، ولم يكن قد طلب من أحد أن يُعد العدة ويضع المخططات لإدارة بلاد فارس.
لفت انتباهي أن بعض المدافعين عن مؤتمر وعد الآخرة يشبهون خطوتهم بخطوة هرتسل في المؤتمر الصهيوني 1897، حين حدد إقامة دولة إسرائيل بعد 50 عام. هؤلاء لم ينتبهوا إلى أن خطة هرتسل كانت واضحة المعالم، فقد كانت خطة تجيب على السؤال: كيف ستقام “دولة إسرائيل”؟ أما مؤتمرنا فهو يناقش كيف سنوزع غنائمنا، وماذا سنملك حال أنفذ الله وعده ووقعت في أحضاننا “دولة إسرائيل” وتحقق وعد الآخرة؟ نحن لا نعدّ العدة ونضع الخطة العشرية والخمسينية لإقامة وعد الآخرة، نحن بهذا التفكير عبء على من سيبعثهم الله لتنفيذ وعد الآخرة، وسيكون الهدف الأول لهؤلاء هو إيقاف طريقة تفكيرنا بهذه المنهجية.
أخيرًا، تستحضرني قصة رائد الفضاء السوفيتي سيرغي كريكاليف، الذي أرسله الاتحاد السوفيتي إلى محطة مير الفضائية في 18 مايو 1991، وخلال الرحلة تفكك الاتحاد السوفيتي وأصبح المكان الذي انطلقت منه الرحلة دولة كازاخستان، التي أبلغته “إنك خرجت مواطنًا سوفيتيًا، ونحن لا نملك القدرة المالية لإعادتك إلى الأرض، وعليك البقاء هناك”، طبعًا تدخلت ألمانيا وقامت بدفع تكاليف إعادته إلى الأرض.
المقارنة هنا للذي اقترح تمزيق الشيكل، فالشيكل الآن رائد في الفضاء الاقتصادي في الكرة الأرضية، إنهاء عملة الشيكل خلال تحقق انتصار على الكيان الغاصب يعني أننا بحاجة للاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة لتستبدل لنا الشيكل بعملتها كي تنزل جميع سكان فلسطين، عربًا ويهود، من المركبة الفضائية التي يستقلونها، وتمكّن لهم عملة ليشتروا بها الغذاء والدواء!
وهذا يعيدنا إلى السؤال الصحيح في سياق وعد الآخرة: إذا تحقق وعد الآخرة، فكيف سيكون؟ كيف سنستلم البلاد؟ ومن الذي سيستلمها؟ واضح أن التصور لدى المؤتمرين هو أن اليهود سيخلون البلاد وتصبح بدون سكان، فمن سيدير البلاد والمقدرات؟ نحن أم بقايا يهود؟ أم طرف دولي ثالث؟ إذا كنا نحن، فهل سيفتحون لنا السيرفرات وأبواب المفاعلات النووية ورموز شركات المياه والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي والبواخر والطائرات والصواريخ والغواصات غير النووية وغواصات الضربة النووية الثانية (التي تحمل رؤوسًا نووية وظيفتها فقط الانتقام للدولة في حال تم تدميرها بالكامل وتدمير مقدراتها) ويمتنعون عن الضربة النووية الثانية؟ إذا كان كذلك سيفتحون لنا كل الأبواب صاغرين، فهل أعددنا خبراء لإدارة كل ذلك؟ وإذا كان بالفعل تنازلوا عن كل هذا، فأنت تتحدث عن صلح تاريخي بيننا وبينهم، وليس استبدال سكان! وإذا لم يكن لدينا قدرات وإمكانيات بشرية تستلم، فهل سنتركها لهم ليشغلوها لنا وفق اتفاق؟ أم سنسلمها لطرف ثالث؟ إن كان كذلك، فهذا ليس وعد الآخرة الذي تحدثت عنه سورة الإسراء، هذا بقاؤنا نعيش تحت إمرتهم وفق الدولة الواحدة.